باريس ــ ليس من السهل احتواء المشاعر. بل تتحكم فينا مشاعرنا بما يتجاوز قدرتنا نحن على التحكم فيها. وأثناء الجائحة، تكون الـغَـلَـبة لمشاعر الخوف بطبيعة الحال.
في مواجهة عالَم يبدو (وهو كذلك حقا) أشد خطورة وتعقيدا وأبعد عن القدرة على التنبؤ بأحداثه بمرور كل يوم، يرغب الناس في التمتع بالحماية والطمأنينة بأي ثمن. ولكن هناك خيط رفيع بين العودة الصحية إلى مفهوم الدولة الحامية والتطور الخطير نحو نموذج الأخ الأكبر ــ والذي في ظله تنتهي بنا الحال إلى التخلي عن حرياتنا الغالية من أجل حماية صحتنا الأعظم قيمة.
في عموم الأمر، الخوف هو نقيض الأمل. في عالم الأمل، يتصور الناس أن الغد سيكون أفضل من اليوم. أما في عالم الخوف، فيظن الناس أن الأمور ستزداد سوءا لا محالة. من هذا المنظور، تبدو آسيا اليوم قارة الأمل، في حين يبدو الأمر كما لو أن أوروبا وأميركا الشمالية هما قارتا الخوف.
لنتأمل هنا الصور الشديدة التناقض القادمة من إيطاليا والصين. في إيطاليا، تتسبب جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19) في إحداث معاناة تبدو بلا نهاية، حتى أن الإيطاليين يتحدثون عن الأزمة على أنها المعادل لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية. في الصين، من ناحية أخرى، أعادت أول أيام الربيع الناس إلى الشوارع. ورغم أنهم ما زالوا يرتدون الأقنعة، فإنهم يستمتعون بالهواء النقي والشمس المشرقة وكأنهم ربحوا الحرب ضد الفيروس.
من الأفضل بالطبع توخي الحذر، لأن مرض فيروس كورونا 2019 قد يعود إلى آسيا، أو ربما لم يختف تماما من المنطقة. لكن آسيا اليوم ــ وخاصة الصين، وتايوان، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج، وسنغافورة، واليابان ــ تُـعَـد مصدرا للأمل، ونموذجا لما كان بوسع الغرب أن يفعل، وما كان ينبغي له أن يفعل، قبل فترة طويلة، لكبح انتشار الفيروس.
لفترة طويلة، ظل قادة الصين يزعمون أن نظامهم السياسي المركزي الاستبدادي متفوق على الديمقراطية الليبرالية الغربية. والآن، للمرة الثالثة في غضون ما يزيد على عشر سنوات قليلا، يقولون للغرب إن نظامنا غير فعّال حقا.
Project Syndicate is returning to Climate Week NYC with an even more expansive program. Join us live on September 22 as we welcome speakers from around the world at our studio in Manhattan to address critical dimensions of the climate debate.
Register Now
في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، سارعت الصين إلى إدانة إخفاقات الرأسمالية على النمط الغربي. وفي عام 2016، كان الاستفتاء في المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي ثم انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة من الأسباب التي عززت اقتناع الصين بأن أداء الديمقراطية كان سيئا بذات القدر.
الآن، مع جائحة مرض فيروس كورونا 2019، تعرض الحكومة الصينية مساعدة أوروبا المنكوبة، وفي قيامها بذلك تعزز قوة الصين الناعمة. وعلى هذا فإن الصين لا تكتفي بمد نفوذها العالمي من خلال التجارة والاستثمار وحسب، بل توسع أيضا نطاق حمايتها إلى أوروبا المنقسمة المرتبكة.
الواقع أن هذه الجائحة أكثر زعزعة لاستقرار الغرب لأنها تضيف إلى الشك حالة من عدم اليقين. من الواضح أن جائحة فيروس كورنا تعمل على تأجيج ثقافة الخوف الموجودة بالفعل في الغرب وتكشف عن صدوع أعمق، سواء داخل أوروبا أو بين أوروبا والولايات المتحدة.
ففي حين ترسل الصين خبراء طبيين، وأقنعة واقية، وأجهزة تنفس إلى إيطاليا وفرنسا، تغلق أميركا أبوابها على نحو مفاجئ ومن جانب واحد في وجه أوروبا، ربما للتعويض عن إنكار ترمب الشاذ الملتبس للخطر في وقت مبكر. من ناحية أخرى، أدارت أوروبا ظهرها لإيطاليا، للمرة الثالثة في غضون ما يزيد قليلا على عشر سنوات ــ أولا خلال أزمة 2008 المالية والاقتصادية التي أثرت على البلاد بشكل خطر، ثم مع أزمة المهاجرين التي بدأت في عام 2014، والآن عن طريق تقييد الصادرات المطلوبة بشكل بالغ الإلحاح من السلع والمستلزمات الطبية.
ما فائدة أوروبا إذا لم تعمل على حماية مواطنيها؟ الواقع أن خيبة رجاء إيطاليا المتزايدة، وبُـعدها عن الاتحاد الأوروبي، ربما تكون أشد خطورة على مستقبل المشروع الأوروبي من قرار الخروج الذي اتخذته المملكة المتحدة. وفي حين تخون أوروبا إيطاليا وتخون أميركا أوروبا، يبدو التضامن الأوروبي غبر الأطلسي على نحو متزايد أشبه ببقايا ماض شبه منسي.
على النقيض من ذلك، ربما تكون المجتمعات الآسيوية أفضل استعدادا لمحاربة الجائحة، لأنها وجدت توزنا أفضل بين الفرد والجماعية. إنها ليست مسألة أنظمة سياسية. فالدول الآسيوية التي أدارت الجائحة على أفضل نحو حتى الآن تضم ديمقراطيات مثل كوريا الجنوبية، وتايوان، واليابان، ودولة تتمتع بمؤسسات ديمقراطية وحكم القانون (سنغافورة)، ودولة استبدادية بحتة (الصين).
بل يتمثل الفارق الأساسي في الممارسة التلقائية (أو القسرية في حالة الصين) للقيم المدنية في هذه المجتمعات الآسيوية. إن ارتداء قناع واق أكثر شيوعا بأشواط في آسيا مقارنة بالغرب، ليس فقط لأن الأقنعة متاحة بسهولة أكبر، بل وأيضا لأن من يرتدونها يقدرون مراعاة واحترام صحة الآخرين. إن الديمقراطية بدون ثقافة مدنية، وهي ظاهرة شائعة في الغرب، وصفة مؤكدة للكارثة في حال تفشي أي وباء أو جائحة.
مع ذلك، ربما يكون لأزمة فيروس كورونا تأثير إيجابي في نهاية المطاف على الديمقراطيات الغربية من خلال تعزيز الثقة في الخبراء، وفضح المشعوذين والدجالين. إذا تسبب الخوف الواسع الانتشار من الفيروس في تشجيع السلوك المسؤول وإفقاد الأصوات الشعبوية مصداقيتها، فسوف يكون هذا خبرا سارا لقادة مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وخبرا سيئا لأولئك من أمثال ترمب.
لا تزال جائحة مرض فيروس كورونا توقع خسائر فادحة في مختلف أنحاء العالم. لكن المؤرخين بعد قرن من الآن سيعتبرونها في الأرجح لحظة غيرت كل القواعد ولم تؤكد على صعود آسيا فحسب، بل وربما أوقفت أيضا انحدار الغرب.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
To have unlimited access to our content including in-depth commentaries, book reviews, exclusive interviews, PS OnPoint and PS The Big Picture, please subscribe
After a decades-long love affair with laissez-faire policies, many governments – notably in developed countries – are increasingly seeking to shape their economies through tariffs, subsidies, public procurement, and more. But not all industrial policies are created equal, and understanding their nuances and limitations is critical to their success.
Too often, the press and voters treat abortion, and reproductive rights more broadly, as well as other “family” issues – like child tax credits, paid family leave policies and affordable childcare – as somehow different from economic issues. But they are not.
shows why abortion, childcare, and parental leave are not merely “family” issues.
باريس ــ ليس من السهل احتواء المشاعر. بل تتحكم فينا مشاعرنا بما يتجاوز قدرتنا نحن على التحكم فيها. وأثناء الجائحة، تكون الـغَـلَـبة لمشاعر الخوف بطبيعة الحال.
في مواجهة عالَم يبدو (وهو كذلك حقا) أشد خطورة وتعقيدا وأبعد عن القدرة على التنبؤ بأحداثه بمرور كل يوم، يرغب الناس في التمتع بالحماية والطمأنينة بأي ثمن. ولكن هناك خيط رفيع بين العودة الصحية إلى مفهوم الدولة الحامية والتطور الخطير نحو نموذج الأخ الأكبر ــ والذي في ظله تنتهي بنا الحال إلى التخلي عن حرياتنا الغالية من أجل حماية صحتنا الأعظم قيمة.
في عموم الأمر، الخوف هو نقيض الأمل. في عالم الأمل، يتصور الناس أن الغد سيكون أفضل من اليوم. أما في عالم الخوف، فيظن الناس أن الأمور ستزداد سوءا لا محالة. من هذا المنظور، تبدو آسيا اليوم قارة الأمل، في حين يبدو الأمر كما لو أن أوروبا وأميركا الشمالية هما قارتا الخوف.
لنتأمل هنا الصور الشديدة التناقض القادمة من إيطاليا والصين. في إيطاليا، تتسبب جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19) في إحداث معاناة تبدو بلا نهاية، حتى أن الإيطاليين يتحدثون عن الأزمة على أنها المعادل لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية. في الصين، من ناحية أخرى، أعادت أول أيام الربيع الناس إلى الشوارع. ورغم أنهم ما زالوا يرتدون الأقنعة، فإنهم يستمتعون بالهواء النقي والشمس المشرقة وكأنهم ربحوا الحرب ضد الفيروس.
من الأفضل بالطبع توخي الحذر، لأن مرض فيروس كورونا 2019 قد يعود إلى آسيا، أو ربما لم يختف تماما من المنطقة. لكن آسيا اليوم ــ وخاصة الصين، وتايوان، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج، وسنغافورة، واليابان ــ تُـعَـد مصدرا للأمل، ونموذجا لما كان بوسع الغرب أن يفعل، وما كان ينبغي له أن يفعل، قبل فترة طويلة، لكبح انتشار الفيروس.
لفترة طويلة، ظل قادة الصين يزعمون أن نظامهم السياسي المركزي الاستبدادي متفوق على الديمقراطية الليبرالية الغربية. والآن، للمرة الثالثة في غضون ما يزيد على عشر سنوات قليلا، يقولون للغرب إن نظامنا غير فعّال حقا.
PS Events: Climate Week NYC 2024
Project Syndicate is returning to Climate Week NYC with an even more expansive program. Join us live on September 22 as we welcome speakers from around the world at our studio in Manhattan to address critical dimensions of the climate debate.
Register Now
في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، سارعت الصين إلى إدانة إخفاقات الرأسمالية على النمط الغربي. وفي عام 2016، كان الاستفتاء في المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي ثم انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة من الأسباب التي عززت اقتناع الصين بأن أداء الديمقراطية كان سيئا بذات القدر.
الآن، مع جائحة مرض فيروس كورونا 2019، تعرض الحكومة الصينية مساعدة أوروبا المنكوبة، وفي قيامها بذلك تعزز قوة الصين الناعمة. وعلى هذا فإن الصين لا تكتفي بمد نفوذها العالمي من خلال التجارة والاستثمار وحسب، بل توسع أيضا نطاق حمايتها إلى أوروبا المنقسمة المرتبكة.
الواقع أن هذه الجائحة أكثر زعزعة لاستقرار الغرب لأنها تضيف إلى الشك حالة من عدم اليقين. من الواضح أن جائحة فيروس كورنا تعمل على تأجيج ثقافة الخوف الموجودة بالفعل في الغرب وتكشف عن صدوع أعمق، سواء داخل أوروبا أو بين أوروبا والولايات المتحدة.
ففي حين ترسل الصين خبراء طبيين، وأقنعة واقية، وأجهزة تنفس إلى إيطاليا وفرنسا، تغلق أميركا أبوابها على نحو مفاجئ ومن جانب واحد في وجه أوروبا، ربما للتعويض عن إنكار ترمب الشاذ الملتبس للخطر في وقت مبكر. من ناحية أخرى، أدارت أوروبا ظهرها لإيطاليا، للمرة الثالثة في غضون ما يزيد قليلا على عشر سنوات ــ أولا خلال أزمة 2008 المالية والاقتصادية التي أثرت على البلاد بشكل خطر، ثم مع أزمة المهاجرين التي بدأت في عام 2014، والآن عن طريق تقييد الصادرات المطلوبة بشكل بالغ الإلحاح من السلع والمستلزمات الطبية.
ما فائدة أوروبا إذا لم تعمل على حماية مواطنيها؟ الواقع أن خيبة رجاء إيطاليا المتزايدة، وبُـعدها عن الاتحاد الأوروبي، ربما تكون أشد خطورة على مستقبل المشروع الأوروبي من قرار الخروج الذي اتخذته المملكة المتحدة. وفي حين تخون أوروبا إيطاليا وتخون أميركا أوروبا، يبدو التضامن الأوروبي غبر الأطلسي على نحو متزايد أشبه ببقايا ماض شبه منسي.
على النقيض من ذلك، ربما تكون المجتمعات الآسيوية أفضل استعدادا لمحاربة الجائحة، لأنها وجدت توزنا أفضل بين الفرد والجماعية. إنها ليست مسألة أنظمة سياسية. فالدول الآسيوية التي أدارت الجائحة على أفضل نحو حتى الآن تضم ديمقراطيات مثل كوريا الجنوبية، وتايوان، واليابان، ودولة تتمتع بمؤسسات ديمقراطية وحكم القانون (سنغافورة)، ودولة استبدادية بحتة (الصين).
بل يتمثل الفارق الأساسي في الممارسة التلقائية (أو القسرية في حالة الصين) للقيم المدنية في هذه المجتمعات الآسيوية. إن ارتداء قناع واق أكثر شيوعا بأشواط في آسيا مقارنة بالغرب، ليس فقط لأن الأقنعة متاحة بسهولة أكبر، بل وأيضا لأن من يرتدونها يقدرون مراعاة واحترام صحة الآخرين. إن الديمقراطية بدون ثقافة مدنية، وهي ظاهرة شائعة في الغرب، وصفة مؤكدة للكارثة في حال تفشي أي وباء أو جائحة.
مع ذلك، ربما يكون لأزمة فيروس كورونا تأثير إيجابي في نهاية المطاف على الديمقراطيات الغربية من خلال تعزيز الثقة في الخبراء، وفضح المشعوذين والدجالين. إذا تسبب الخوف الواسع الانتشار من الفيروس في تشجيع السلوك المسؤول وإفقاد الأصوات الشعبوية مصداقيتها، فسوف يكون هذا خبرا سارا لقادة مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وخبرا سيئا لأولئك من أمثال ترمب.
لا تزال جائحة مرض فيروس كورونا توقع خسائر فادحة في مختلف أنحاء العالم. لكن المؤرخين بعد قرن من الآن سيعتبرونها في الأرجح لحظة غيرت كل القواعد ولم تؤكد على صعود آسيا فحسب، بل وربما أوقفت أيضا انحدار الغرب.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali