327ff10346f86f380e34901e_ve1500c.jpg

الانصهار النووي والغبار الذري

بروكسل ـ إن الاستعارات التي تعودنا على استخدامها في وصف الأزمة المالية أثناء الفترة 2008-2009 ـ الزلزال، والتسونامي، والانصهار، والبجعة السوداء، والغبار الذري ـ عادت الآن وبقوة، ولكن اليوم أصبحت حرفية. والواقع أن الأزمة المالية والأزمة النووية التي ألمت بمحطة الطاقة النووية في فوكوشيما باليابان مؤخراً تشتركان في أربعة من أوجه التشابه على الأقل:

·         تشير استعارة "البجعة السوداء" إلى أن هذه الأحداث تعكس صعوبة في التوصل إلى التقييم الصحيح للمخاطر في الأنظمة المعقدة.

·         أثبتت الجهات التنظيمية والرقابية عجزها عن التنبؤ بالأزمات ومنعها.

·         إن "الغبار الذري" قابل للانتقال بطبيعته عبر الحدود.

·         إن التكاليف التي تتكبدها الشركات المتهورة غير الحكيمة سوف تعمم على أفراد المجتمع جزئيا.

لا شك أن الزلزال الذي ضرب اليابان بقوة 9.0 درجات على مقياس ريختر يُعَد حدثاً استثنائياً للغاية ـ فهو حدث نادر إلى الحد الذي يجعل تقييم احتمالات حدوثه بالاستعانة بنماذج مستندة إلى بيانات تاريخية محدودة أمراً مستحيلا. والواقع أن الأحداث المفضية إلى تأثيرات هائلة على الرغم من تدني احتمالات وقوعها كانت في صميم الأزمة المالية أيضا.

Winter Sale: Save 40% on a new PS subscription
PS_Sales_Winter_1333x1000 AI

Winter Sale: Save 40% on a new PS subscription

At a time of escalating global turmoil, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided.

Subscribe to Digital or Digital Plus now to secure your discount.

Subscribe Now

فمن بين أسباب اندلاع الأزمة المالية كان شهية المؤسسات المالية لاختيار (وفي بعض الأحيان خلق) منتجات ذات عوائد أعلى من المتوسط في الأوقات العادية ولكن خسائرها مفرطة في الحالات الاستثنائية. ومحطات الطاقة النووية القديمة المبنية في مناطق معروفة بالنشاط الزلزالي تشتمل على بنية مماثلة. فضلاً عن ذلك فإن نماذج المخاطر المالية والمخاطر النووية لم تتمكن من التوصل إلى التقييم الصحيح لعلاقات الارتباط بين المخاطر المختلفة.

ففي حين حاولت المؤسسات المالية تخفيف المخاطر من خلال تكديس صكوك الرهن العقاري الثانوية العالية المخاطر، كان نظام التبريد في مفاعل فوكوشيما قادراً على التعامل إما مع انقطاع التيار الكهربائي وزلزال أو موجة مد عاتية (تسونامي). ولكن في كل من الحالتين، جاءت احتمالات الفشل مترابطة، وأدى وقوعها مجتمعة إلى الكارثة.

ففي حالة "الانصهار" النووي، وأيضاً في حالة "الانهيار" المالي، يتخلف الغبار الذري والعواقب الثانوية. في الحالة اليابانية، منعت الرياح وغياب الحدود البرية تأثيراً ضخماً على البلدان المجاورة. وفي أوروبا القارية تقع العديد من المفاعلات على مسافات لا تتجاوز 160 كيلومتر من أراضي بلدان أخرى. وهذا يعني أن وقوع أي حادث نووي في أوروبا فقد يؤدي على الأرجح إلى عواقب عابرة للحدود.

ولكن التنظيمات النووية في الاتحاد الأوروبي، حتى في ظل المعاهدة الأوروبية للطاقة الذرية، لا تزال وطنية في الأساس، شأنها في ذلك كشأن التنظيمات المالية. ونظراً للتفاوت العميق في أهمية الطاقة النووية بالنسبة لاقتصاد كل بلد في أوروبا، فإن التوصل إلى الإجماع على المواءمة التنظيمية أمر بالغ الصعوبة.

ففرنسا، على سبيل المثال، سوف تظل معتمدة على قدرتها في توليد الطاقة النووية، التي سوف تظل تشكل الحصة الأكبر من إنتاجها من الطاقة الكهربائية. ومن ناحية أخرى، قد ترغب إيطاليا في بيئة خالية من المخاطر النووية، حيث لا تنتج الطاقة الكهربية من الطاقة النووية، ولكنها محاطة (في حدود مائة وستين كيلومتر تقريبا) بست محطات لتوليد الطاقة النووية في فرنسا، ومحطة في سلوفينيا، ومحطة في سويسرا. والواقع أن عزوف فرنسا عن إخضاع منشآتها النووية للتنظيمات الأوروبية المحددة من قِبَل جيرانها المتشككين في الطاقة النووية أشبه بالجهود البريطانية الرامية إلى منع أي تنسيق أوروبي شامل لقواعد السوق المالية، نظراً لأهمية قطاعها المالي.

وثمة تشابه آخر بين أزمة اليابان الحالية والأزمة المالية الأخيرة، ألا وهو أن تقييم المخاطر الكاذب كان رجعاً إلى حد كبير إلى التوزيع غير المتماثل لتكاليف الرفاهية الاجتماعية والتكاليف الفردية المترتبة على تدابير تخفيف المخاطر الأكثر فعالية. فقد كان بوسع كل من ليمان براذرز وشركة طوكيو للطاقة الكهربائية أن تزيد من أرباحها ما دامت المخاطر التي كانت على استعداد لتقبلها لم تتحقق. ولا شك أن الإدارة في كل من المؤسستين كانت مستفيدة طالما كل شيء يسير على ما يرام. ولكن عندما اندلعت الأزمة تجاوزت تكاليف الانهيار قيمة أسهمها، وبالتالي كان لابد من تعميم هذه التكاليف اجتماعيا.

وهذا يعني الفشل البنيوي في التعامل مع الأنشطة الخاصة المعقدة إلى الحد الذي يجعل المجازفة تفضي إلى أضرار اجتماعية ضخمة. والواقع أن هذه الحقيقة مفهومة إلى حد كبير ـ وهي السبب وراء استعانتنا بالجهات التنظيمية في توجيه عمل أغلب هذه الأنظمة.

ولكن قبل اندلاع أزمة اليابان النووية، وقبل اندلاع الأزمة المالية، كانت الجهات التنظيمية عاجزة عن منع المخاطر. ولم تفرض لجنة الأوراق المالية والبورصة في الولايات المتحدة المزيد من رأس المال ولم تعمل على منع الممارسات المحفوفة بالمخاطر في البنوك الاستثمارية الكبرى. ولم تفرض الجهات التنظيمية النووية في اليابان قواعد مالية أكثر صرامة.

وهناك أسباب عديدة لهذا الفشل التنظيمي، بما في ذلك عدم القدرة على اكتساب ومعالجة كافة البيانات ذات الصلة، والصعوبة السياسية المتمثلة في محاولة تنفيذ أحكام أكثر صرامة، وصعوبة وضع نماذج للأحداث النادرة الوقوع ولكنها شديدة التأثير. وبالتالي فإن الاعتماد على تدني احتمالات الفشل، والسياسات الوطنية، والحَذَر من جانب الجهات الخاصة الفاعلة، والمراقبة من قِبَل الجهات التنظيمية، يبدو غير كاف لمنع وقوع الكارثة. ماذا يتعين علينا أن نفعل إذن؟

كما هي الحال في عالم التمويل، فإن ضمان تحمل منشئ المخاطر للتكاليف المترتبة عليها يبدو التوجه الأكثر معقولية. وإذا ألزمنا كل محطة لتوليد الطاقة النووية على التأمين ضد المخاطر التي تفرضها على المجتمع (سواء داخل أو خارج بلد الموقع)، فإنها سوف تواجه التكاليف الاقتصادية الحقيقية المترتبة على أنشطتها.

وفي ذلك العالم المثالي، سوف يرتبط التأمين على المحطات الفردية بعوامل، التي قد تتأثر وقد لا تتأثر، مثل موقع المحطة في منطقة مكتظة بالسكان، ومدى وعي السكان المحليين بالمخاطر. فضلاً عن ذلك فإن تقييم المخاطر لابد وأن يرتبط بعوامل الخطر في المحطات الفردية، مثل إقامتها في منطقة زلزالية، والاحتواء الثانوي، وتدابير الأمان المتكررة، إلى آخر ذلك. فالمحطات المقامة في مناطق مكتظة بالسكان، والتي تطبق معايير سلامة منخفضة على سبيل المثال، لابد وأن تواجه تكاليف تأمين أعلى، وهو ما قد يؤدي إلى التخلص التدريجي التلقائي من المحطات الأشد خطرا.

بيد أن تنفيذ مثل هذه الخطة أمر غير مرجح. فأولا، من المستحيل تقريباً تقييم مستويات الخطر التي تفرضها المحطات الفردية على الوجه الصحيح. وثانيا، مثل هذه الخطط من شأنها أن تفرض تكاليف أكبر على قِلة من الشركات في قِلة من البلدان. وسوف تناضل حكومات هذه البلدان في سبيل حماية شركاتها من محاولات إلزامها بتحمل تكاليف المخاطر المجتمعية التي تمثلها.

وتعكس هذه النتيجة المحتملة المبادرة الرامية إلى إنشاء صندوق مصرفي أوروبي أو عالمي للتأمين ضد الأزمة المالية المقبلة. ولكن في كلتا الحالتين، قد يخدم التأمين المثالي رغم ذلك كمؤشر صالح لتوجيه عملية اختيار السياسية الواجب تنفيذها.

ومن الممكن دفع التحرك في اتجاه هذا المؤشر باتخاذ تدبيرين اثنين: الأول، التخلص التدريجي من محطات الطاقة النووية، ليس تبعاً لعمرها، ولكن بما يتفق مع مستوى الخطر الذي تفرضه، أياً كانت كيفية حساب الخطر؛ وثانيا، فرض التأمين الإلزامي عبر الحدود الوطنية فيما يتصل بالحوادث النووية. وبموجب هذه الخطة فإن الاتحاد السوفييتي في عام 1986 على سبيل المثال كان ليتم إلزامه بتحمل التكاليف التي فرضها حادث تشرنوبيل على الشركات وهيئات الرعاية الصحية في أوروبا.

لا شك أن تنفيذ هذه التحسينات سوف يكون صعباً للغاية. ولكن كما هي الحال في القطاع المالي، فإن الإصلاح قد يتولد عن الأزمة.

https://prosyn.org/KZhFlVUar