كمبريدج ــ السؤال الأكثر أهمية الذي يواجه الولايات المتحدة ــ والعالم على أكثر من نحو ــ بعد أحداث عام 2017 هو: هل تتحقق نبوءة الشاعر وليام بتلر ييتس المخيفة حيث قال "الأشياء تتهاوى؛ ولم يعد بوسع الوسط أن يتحمل"؟ وهل تستمر هذه الحال حيث يبدو الأمر وكأن "الأفضل بات يفتقر إلى الإيمان، وصار الأسوأ تملؤه طاقة حماسية ملتهبة"؟ من الصعب أن ينفض المرء عن نفسه الشعور بالقلق الشديد، ولكن من المبكر للغاية أن نتوقع الفشل.
الآن أصبح لدى الولايات المتحدة رئيس يستخدم حسابه على تويتر بانتظام ليكيل السباب والإهانات لقادة الدول المسلحة نوويا، والصحافة الأميركية، وأعضاء حكومته، والأقليات الدينية والعِرقية، في حين يُمطِر أولئك الذين ينتهكون قيم الديمقراطية والتسامح والقانون الدولي بالمديح والثناء.
وأصبحت بلدان مثل الصين، وروسيا، وتركيا، والمملكة العربية السعودية أكثر سلطوية واستسلاما للنزعة القومية وعدوانية على الساحة العالمية مما كنت عليه قبل عام واحد. ثُم هناك زعيم كوريا الشمالية الأكثر ولعا بالقتال بكل تأكيد، وربما الأكثر شذوذا، والذي يقود دولة أصبحت على قاب قوسين أو أدنى من تطوير القدرة على توجيه ضربات نووية بعيدة المدى.
وواجهت أوروبا أيضا عددا من المصائب والمحن في عام 2017. فإلى جانب القرار الذي اتخذته المملكة المتحدة بالمضي قدما في انسحابها من الاتحاد الأوروبي، فاز اليمين المتطرف بمقاعد في البوندستاج (مجلس النواب الألماني) لأول مرة منذ عقود من الزمن، وكان أداء أحزاب اليمين المتطرف ومرشحيها أفضل من أي وقت مضى في عدد من الانتخابات الأوروبية. وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، سار نحو ستين ألف شخص عبر شوارع مدينة وارسو مطالبين بأوروبا "بيضاء".
هناك أيضا قدر وفير من الطاقة الحماسية، والقسم الأعظم من هذه الطاقة موجه نحو التقاليد والتفاهمات التي جعلت العقود العديدة الأخيرة الأفضل في تاريخ البشرية، عندما يتعلق الأمر بمستويات المعيشة، أو تحرر الإنسان، أو التقدم العلمي والفني، أو الحد من الألم والمعاناة، أو الحد من معدلات الوفاة العنيفة والسابقة لأوانها.
ولكن هل تظل هذه المكاسب متماسكة؟ هل يستطيع شكل ما من أشكال الوسط أن يصمد؟ تقدم لنا الأسواق المالية نظرة متفائلة بشكل ملحوظ. فقد كسرت سوق الأوراق المالية (البورصة) في الولايات المتحدة الأرقام القياسية الواحد تلو الآخر في العام الذي مر منذ انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة، في حين انخفضت مؤشرات تقلب أسواق البورصة في الوقت الحاضر والمتوقعة في المستقبل إلى مستويات شديدة الانخفاض وفقا للمعايير التاريخية. وكان أداء بعض أسواق البورصة في مختلف العالم أفضل.
At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.
Subscribe Now
ورغم أن أسعار الأسهم المرتفعة ومستويات التقلب المنخفضة قد تبدو مفاجئة، فإنها تعكس في الأرجح مدى الارتباط المحدود بين نتائج أسواق البورصة والأحداث الجيوسياسية. على سبيل المثال، لم يخلف الهجوم الياباني على بيرل هاربور، أو اغتيال الرئيس جون كينيدي، أو هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، أي تأثير مستدام على الاقتصاد. والواقع أن أكبر تحركات في أسواق البورصة، مثل انهيار 1987، تحدث عادة في أيام لا تحمل أخبارا خارجية مؤثرة.
يرجع السبب إلى ازدهار أسواق البورصة إلى حقيقة مفادها أنها تتألف من شركات فردية، وكانت أرباح الشركات في ارتفاع ويمكن التنبؤ بها إلى حد مذهل هذا العام. ولكن من الصعب أن نجزم إلى متى قد تستمر هذه الحال، ولا يخلو الأمر من خطر يتمثل في إفراط المستثمرين على نحو متزايد في الاستدانة أو ملاحقة استراتيجيات ــ مثل النسخ المعاصرة من تأمين الـمَحافظ الاستثمارية ــ من شأنها أن تدفعهم إلى البيع إذا انخفضت السوق. وينبغي لنا أن نتذكر أن الأسواق لم يكن من الواضح عليها أنها تعمل على تضخيم فقاعات ملحوظة قبل انهيار عام 1987.
هناك أيضا مسألة صحة المؤسسات المالية. ففي حين تبدو الشركات الكبرى أفضل تمويلا وأكثر سيولة بشكل كبير مما كانت عليه قبل الأزمة، فإن مؤشرات المخاطر في السوق تشير إلى أننا قد لا نكون قريبين من نهاية النفق كما يفترض كثيرون. فعلى الرغم من الزيادات الضخمة ظاهريا في رأس المال وما ترتب على ذلك من انحدار في مستويات الاستدانة، فلا يبدو أن أرصدة البنوك أصبحت أقل تقلبا بشكل كبير، كما كانت النظرية المالية لتتنبأ إذا أصبح رأس المال وفيرا.
كثيرا ما يُستَشهَد بالأسواق المالية، بما في ذلك من قِبَل الرئيس الأميركي دونالد ترمب، على أنها تقدم العزاء والعون في اللحظة الحالية. ولكن أي ارتداد إلى الأزمة المالية من شأنه أن يخلف في الأرجح عواقب سياسية كارثية، فيدفع إلى السلطة بقوميين شعبويين أكثر سُمية. وفي مثل هذا السيناريو، لن يتمكن الوسط من الصمود.
إلى جانب مخاطر الأمد القريب التي تثمنها الأسواق، هناك مسألة الانكماش الاقتصادي. والنبأ الطيب هنا هو أن المشاعر إيجابية في أغلب أنحاء العالَم. ويبدو من غير المحتمل أن يتسارع التضخم خارج نطاق السيطرة فيؤدي إلى الانحراف نحو سياسات مالية ونقدية انكماشية. ويرى أغلب المتكهنين أن خطر الركود في الأمد القريب منخفض.
بيد أن الركود لا يمكن التنبؤ به بنجاح أبدا، حتى قبل قدومه بستة أشهر. وقد استمر التوسع الحالي في الولايات المتحدة لفترة طويلة، وخطر ارتكاب أخطاء سياسية هناك أمر حقيقي للغاية، وذلك بسبب القيادة الاقتصادية الـمُعضِلة في إدارة ترمب. وأظن أن الاحتمال السنوي للركود في السنوات المقبلة ربما يبلغ 20% إلى 25%. وعلى هذا فإن الاحتمالات أقوى حتى من احتمالات انزلاق الاقتصاد الأميركي إلى الركود في السنوات الثلاث المقبلة.
الواقع أن مكمن الخطر من منظور اقتصادي بحت يتمثل في أن الاستراتيجية التقليدية في مكافحة الركود ــ خفض أسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية بنحو 500 نقطة أساس ــ لن تكون متاحة هذا العام، نظرا لانخفاض أسعار الفائدة إلى حد الصِفر الأدنى. من غير الواضح أيضا ما إذا كان التوسع المالي قد يتوفر لها ما يلزم من إرادة أو حيز.
وهذا يعني أن الركود التالي، شأنه في ذلك كشأن الأخير، ربما يكون مطولا وعميقا، مع ما يترتب على ذلك من عواقب عالمية حادة. ويبدو أن القدرة السياسية على تقديم استجابة عالمية، كتلك التي شهدناها في قمة مجموعة العشرين في لندن عام 2009، أصبحت هي أيضا غائبة. ولنقارن هنا بين الرؤى العالمية للرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس وزراء المملكة المتحدة جوردون براون آنذاك وبين رؤى ترمب ورئيسة الوزراء تيريزا ماي اليوم.
الحق أن رعدة تسري في جسدي عندما أفكر في ما قد يعنيه الركود العميق للسياسة والسياسات. ومن الصعب أن أتخيل إمكانية تجنب عودة الحياة إلى تدابير الحماية، والشعبوية، والتضحية بكباش الفداء. وفي مثل هذا السيناريو، كما هي الحال مع أي أزمة مالية أخرى، لن يتمكن الوسط من الصمود.
لكن الخطر الأعظم في السنوات القليلة المقبلة، في اعتقادي، ليس انهيار السوق ولا الركود. بل يكمن الخطر الأعظم في الانزلاق إلى حلقة سياسية مفرغة حيث يتحول استنتاج الناخبين بأن الحكومة لا تعمل بفعالية من أجلهم إلى نبوءة ذاتية التحقق. والمرشحون المنتخبون على أساس الاستياء والسخط ينتزعون شرعية الحكومات التي يقودونها، وهذا كفيل بتغذية المزيد من الاستياء بل وحتى جلب قادة جدد أكثر إثارة للمشكلات والمعضلات. وتُصبِح الغَلَبة للاستهزاء بكل شيء.
وإلا فكيف يفسر المرء ترشح روي مور لمقعد في مجلس الشيوخ الأميركي؟ إنه الرجل الذي أقيل مرتين إقالة مسببة من منصبه في المحكمة العليا في ولاية ألاباما، والذي اتُهِم بالاعتداء جنسيا على فتيات مراهقات عندما كان في الثلاثينات من عمره، والآن ربما يدخل مجلس الشيوخ الأميركي في حين ينظر زملاؤه إلى الجانب الآخر تغافلا.
إذا فقد مواطنو بلد ما ثقتهم في قدرة حكومتهم على تحسين حياتهم، فإن الحكومة يُصبِح لديها الحافز لحشد الدعم الشعبي من خلال تركيز الانتباه على تهديدات لا يمكن لغيرها التصدي لها. ولهذا السبب، يزداد إغراء وصم الأقليات حِدة في المجتمعات التي يغلُب عليها الغضب وعدم اليقين بشأن المستقبل. ولنفس السبب يميل المسؤولون الرسميون إلى تضخيم التهديدات الأجنبية.
وبوسعنا أن نرصد هذه الظاهرة في مختلف أنحاء العالَم. فقد لجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الصيني شي جين بينج، إلى جعل النزعة القومية جزءا مركزيا في استراتيجيتهم الحاكمة. وكذا فعل ترمب، الذي رفض صراحة المجتمع الدولي لصالح فكرة مفادها أنه لا يوجد سوى صراع لا يتوقف بين الدول القومية سعيا إلى الفوز بميزة تنافسية.
وعندما ترفض القوى البارزة في العالَم فكرة المجتمع الدولي التي ناصرتها طوال 75 عاما تقريبا لصالح عقد صفقات حسب الغرض، فلن تجد القوى الأخرى اختيارا غير السير على خطاها. وتستشعر الدول التي لم يعد بوسعها أن تعتمد على الولايات المتحدة الضغوط المطالبة لها بتوفير أمنها بنفسها. وسوف يسعى خصوم أميركا حتما إلى شغل الفراغات المتخلفة عن تقهقر الولايات المتحدة.
تستطيع الإدارات اللاحقة دوما إلغاء أو تعطيل السياسات الضريبية أو التنظيمية أو الموازنة ــ وإن كان ذلك بصعوبة كبيرة. أما التصور بأن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة لمناصرة ودعم حلفائها في المجتمع الدولي، فهو أمر أقل قابلية للإلغاء أو النقض. وحتى إذا استأنفت الولايات المتحدة التزاماتها السابقة، فسوف يظل الشعور قائما بأن من يخلف الوعد مرة يمكنه أن يخلف الوعد مرة أخرى. وبمجرد أن تسلك الدول الأخرى مسارا جديدا، فربما تُصبِح غير قادرة أو غير راغبة في عكس مسارها.
هل يصمد الوسط إذن؟ وهل يظل النظام الدولي مستقرا في عموم الأمر؟ تتوقف الإجابة على اختيارات إدارة ترمب واستجابات حكومات أخرى. ولكن بينما تراقب الدول الأخرى أميركا، فإنها لن تكتفي بالنظر إلى رئيسها، وخاصة مع استمرار شعبيته في الانحدار. ولهذا السبب، بات من المهم أكثر من أي وقت مضى أن يعلن الأميركيون كافة التزامهم المستمر بالديمقراطية والرخاء في الداخل وبقيادة المجتمع العالمي.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali
To have unlimited access to our content including in-depth commentaries, book reviews, exclusive interviews, PS OnPoint and PS The Big Picture, please subscribe
كمبريدج ــ السؤال الأكثر أهمية الذي يواجه الولايات المتحدة ــ والعالم على أكثر من نحو ــ بعد أحداث عام 2017 هو: هل تتحقق نبوءة الشاعر وليام بتلر ييتس المخيفة حيث قال "الأشياء تتهاوى؛ ولم يعد بوسع الوسط أن يتحمل"؟ وهل تستمر هذه الحال حيث يبدو الأمر وكأن "الأفضل بات يفتقر إلى الإيمان، وصار الأسوأ تملؤه طاقة حماسية ملتهبة"؟ من الصعب أن ينفض المرء عن نفسه الشعور بالقلق الشديد، ولكن من المبكر للغاية أن نتوقع الفشل.
الآن أصبح لدى الولايات المتحدة رئيس يستخدم حسابه على تويتر بانتظام ليكيل السباب والإهانات لقادة الدول المسلحة نوويا، والصحافة الأميركية، وأعضاء حكومته، والأقليات الدينية والعِرقية، في حين يُمطِر أولئك الذين ينتهكون قيم الديمقراطية والتسامح والقانون الدولي بالمديح والثناء.
وأصبحت بلدان مثل الصين، وروسيا، وتركيا، والمملكة العربية السعودية أكثر سلطوية واستسلاما للنزعة القومية وعدوانية على الساحة العالمية مما كنت عليه قبل عام واحد. ثُم هناك زعيم كوريا الشمالية الأكثر ولعا بالقتال بكل تأكيد، وربما الأكثر شذوذا، والذي يقود دولة أصبحت على قاب قوسين أو أدنى من تطوير القدرة على توجيه ضربات نووية بعيدة المدى.
وواجهت أوروبا أيضا عددا من المصائب والمحن في عام 2017. فإلى جانب القرار الذي اتخذته المملكة المتحدة بالمضي قدما في انسحابها من الاتحاد الأوروبي، فاز اليمين المتطرف بمقاعد في البوندستاج (مجلس النواب الألماني) لأول مرة منذ عقود من الزمن، وكان أداء أحزاب اليمين المتطرف ومرشحيها أفضل من أي وقت مضى في عدد من الانتخابات الأوروبية. وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، سار نحو ستين ألف شخص عبر شوارع مدينة وارسو مطالبين بأوروبا "بيضاء".
هناك أيضا قدر وفير من الطاقة الحماسية، والقسم الأعظم من هذه الطاقة موجه نحو التقاليد والتفاهمات التي جعلت العقود العديدة الأخيرة الأفضل في تاريخ البشرية، عندما يتعلق الأمر بمستويات المعيشة، أو تحرر الإنسان، أو التقدم العلمي والفني، أو الحد من الألم والمعاناة، أو الحد من معدلات الوفاة العنيفة والسابقة لأوانها.
ولكن هل تظل هذه المكاسب متماسكة؟ هل يستطيع شكل ما من أشكال الوسط أن يصمد؟ تقدم لنا الأسواق المالية نظرة متفائلة بشكل ملحوظ. فقد كسرت سوق الأوراق المالية (البورصة) في الولايات المتحدة الأرقام القياسية الواحد تلو الآخر في العام الذي مر منذ انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة، في حين انخفضت مؤشرات تقلب أسواق البورصة في الوقت الحاضر والمتوقعة في المستقبل إلى مستويات شديدة الانخفاض وفقا للمعايير التاريخية. وكان أداء بعض أسواق البورصة في مختلف العالم أفضل.
HOLIDAY SALE: PS for less than $0.7 per week
At a time when democracy is under threat, there is an urgent need for incisive, informed analysis of the issues and questions driving the news – just what PS has always provided. Subscribe now and save $50 on a new subscription.
Subscribe Now
ورغم أن أسعار الأسهم المرتفعة ومستويات التقلب المنخفضة قد تبدو مفاجئة، فإنها تعكس في الأرجح مدى الارتباط المحدود بين نتائج أسواق البورصة والأحداث الجيوسياسية. على سبيل المثال، لم يخلف الهجوم الياباني على بيرل هاربور، أو اغتيال الرئيس جون كينيدي، أو هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، أي تأثير مستدام على الاقتصاد. والواقع أن أكبر تحركات في أسواق البورصة، مثل انهيار 1987، تحدث عادة في أيام لا تحمل أخبارا خارجية مؤثرة.
يرجع السبب إلى ازدهار أسواق البورصة إلى حقيقة مفادها أنها تتألف من شركات فردية، وكانت أرباح الشركات في ارتفاع ويمكن التنبؤ بها إلى حد مذهل هذا العام. ولكن من الصعب أن نجزم إلى متى قد تستمر هذه الحال، ولا يخلو الأمر من خطر يتمثل في إفراط المستثمرين على نحو متزايد في الاستدانة أو ملاحقة استراتيجيات ــ مثل النسخ المعاصرة من تأمين الـمَحافظ الاستثمارية ــ من شأنها أن تدفعهم إلى البيع إذا انخفضت السوق. وينبغي لنا أن نتذكر أن الأسواق لم يكن من الواضح عليها أنها تعمل على تضخيم فقاعات ملحوظة قبل انهيار عام 1987.
هناك أيضا مسألة صحة المؤسسات المالية. ففي حين تبدو الشركات الكبرى أفضل تمويلا وأكثر سيولة بشكل كبير مما كانت عليه قبل الأزمة، فإن مؤشرات المخاطر في السوق تشير إلى أننا قد لا نكون قريبين من نهاية النفق كما يفترض كثيرون. فعلى الرغم من الزيادات الضخمة ظاهريا في رأس المال وما ترتب على ذلك من انحدار في مستويات الاستدانة، فلا يبدو أن أرصدة البنوك أصبحت أقل تقلبا بشكل كبير، كما كانت النظرية المالية لتتنبأ إذا أصبح رأس المال وفيرا.
كثيرا ما يُستَشهَد بالأسواق المالية، بما في ذلك من قِبَل الرئيس الأميركي دونالد ترمب، على أنها تقدم العزاء والعون في اللحظة الحالية. ولكن أي ارتداد إلى الأزمة المالية من شأنه أن يخلف في الأرجح عواقب سياسية كارثية، فيدفع إلى السلطة بقوميين شعبويين أكثر سُمية. وفي مثل هذا السيناريو، لن يتمكن الوسط من الصمود.
إلى جانب مخاطر الأمد القريب التي تثمنها الأسواق، هناك مسألة الانكماش الاقتصادي. والنبأ الطيب هنا هو أن المشاعر إيجابية في أغلب أنحاء العالَم. ويبدو من غير المحتمل أن يتسارع التضخم خارج نطاق السيطرة فيؤدي إلى الانحراف نحو سياسات مالية ونقدية انكماشية. ويرى أغلب المتكهنين أن خطر الركود في الأمد القريب منخفض.
بيد أن الركود لا يمكن التنبؤ به بنجاح أبدا، حتى قبل قدومه بستة أشهر. وقد استمر التوسع الحالي في الولايات المتحدة لفترة طويلة، وخطر ارتكاب أخطاء سياسية هناك أمر حقيقي للغاية، وذلك بسبب القيادة الاقتصادية الـمُعضِلة في إدارة ترمب. وأظن أن الاحتمال السنوي للركود في السنوات المقبلة ربما يبلغ 20% إلى 25%. وعلى هذا فإن الاحتمالات أقوى حتى من احتمالات انزلاق الاقتصاد الأميركي إلى الركود في السنوات الثلاث المقبلة.
الواقع أن مكمن الخطر من منظور اقتصادي بحت يتمثل في أن الاستراتيجية التقليدية في مكافحة الركود ــ خفض أسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية بنحو 500 نقطة أساس ــ لن تكون متاحة هذا العام، نظرا لانخفاض أسعار الفائدة إلى حد الصِفر الأدنى. من غير الواضح أيضا ما إذا كان التوسع المالي قد يتوفر لها ما يلزم من إرادة أو حيز.
وهذا يعني أن الركود التالي، شأنه في ذلك كشأن الأخير، ربما يكون مطولا وعميقا، مع ما يترتب على ذلك من عواقب عالمية حادة. ويبدو أن القدرة السياسية على تقديم استجابة عالمية، كتلك التي شهدناها في قمة مجموعة العشرين في لندن عام 2009، أصبحت هي أيضا غائبة. ولنقارن هنا بين الرؤى العالمية للرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس وزراء المملكة المتحدة جوردون براون آنذاك وبين رؤى ترمب ورئيسة الوزراء تيريزا ماي اليوم.
الحق أن رعدة تسري في جسدي عندما أفكر في ما قد يعنيه الركود العميق للسياسة والسياسات. ومن الصعب أن أتخيل إمكانية تجنب عودة الحياة إلى تدابير الحماية، والشعبوية، والتضحية بكباش الفداء. وفي مثل هذا السيناريو، كما هي الحال مع أي أزمة مالية أخرى، لن يتمكن الوسط من الصمود.
لكن الخطر الأعظم في السنوات القليلة المقبلة، في اعتقادي، ليس انهيار السوق ولا الركود. بل يكمن الخطر الأعظم في الانزلاق إلى حلقة سياسية مفرغة حيث يتحول استنتاج الناخبين بأن الحكومة لا تعمل بفعالية من أجلهم إلى نبوءة ذاتية التحقق. والمرشحون المنتخبون على أساس الاستياء والسخط ينتزعون شرعية الحكومات التي يقودونها، وهذا كفيل بتغذية المزيد من الاستياء بل وحتى جلب قادة جدد أكثر إثارة للمشكلات والمعضلات. وتُصبِح الغَلَبة للاستهزاء بكل شيء.
وإلا فكيف يفسر المرء ترشح روي مور لمقعد في مجلس الشيوخ الأميركي؟ إنه الرجل الذي أقيل مرتين إقالة مسببة من منصبه في المحكمة العليا في ولاية ألاباما، والذي اتُهِم بالاعتداء جنسيا على فتيات مراهقات عندما كان في الثلاثينات من عمره، والآن ربما يدخل مجلس الشيوخ الأميركي في حين ينظر زملاؤه إلى الجانب الآخر تغافلا.
إذا فقد مواطنو بلد ما ثقتهم في قدرة حكومتهم على تحسين حياتهم، فإن الحكومة يُصبِح لديها الحافز لحشد الدعم الشعبي من خلال تركيز الانتباه على تهديدات لا يمكن لغيرها التصدي لها. ولهذا السبب، يزداد إغراء وصم الأقليات حِدة في المجتمعات التي يغلُب عليها الغضب وعدم اليقين بشأن المستقبل. ولنفس السبب يميل المسؤولون الرسميون إلى تضخيم التهديدات الأجنبية.
وبوسعنا أن نرصد هذه الظاهرة في مختلف أنحاء العالَم. فقد لجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الصيني شي جين بينج، إلى جعل النزعة القومية جزءا مركزيا في استراتيجيتهم الحاكمة. وكذا فعل ترمب، الذي رفض صراحة المجتمع الدولي لصالح فكرة مفادها أنه لا يوجد سوى صراع لا يتوقف بين الدول القومية سعيا إلى الفوز بميزة تنافسية.
وعندما ترفض القوى البارزة في العالَم فكرة المجتمع الدولي التي ناصرتها طوال 75 عاما تقريبا لصالح عقد صفقات حسب الغرض، فلن تجد القوى الأخرى اختيارا غير السير على خطاها. وتستشعر الدول التي لم يعد بوسعها أن تعتمد على الولايات المتحدة الضغوط المطالبة لها بتوفير أمنها بنفسها. وسوف يسعى خصوم أميركا حتما إلى شغل الفراغات المتخلفة عن تقهقر الولايات المتحدة.
تستطيع الإدارات اللاحقة دوما إلغاء أو تعطيل السياسات الضريبية أو التنظيمية أو الموازنة ــ وإن كان ذلك بصعوبة كبيرة. أما التصور بأن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة لمناصرة ودعم حلفائها في المجتمع الدولي، فهو أمر أقل قابلية للإلغاء أو النقض. وحتى إذا استأنفت الولايات المتحدة التزاماتها السابقة، فسوف يظل الشعور قائما بأن من يخلف الوعد مرة يمكنه أن يخلف الوعد مرة أخرى. وبمجرد أن تسلك الدول الأخرى مسارا جديدا، فربما تُصبِح غير قادرة أو غير راغبة في عكس مسارها.
هل يصمد الوسط إذن؟ وهل يظل النظام الدولي مستقرا في عموم الأمر؟ تتوقف الإجابة على اختيارات إدارة ترمب واستجابات حكومات أخرى. ولكن بينما تراقب الدول الأخرى أميركا، فإنها لن تكتفي بالنظر إلى رئيسها، وخاصة مع استمرار شعبيته في الانحدار. ولهذا السبب، بات من المهم أكثر من أي وقت مضى أن يعلن الأميركيون كافة التزامهم المستمر بالديمقراطية والرخاء في الداخل وبقيادة المجتمع العالمي.
ترجمة: إبراهيم محمد علي Translated by: Ibrahim M. Ali